ابو بدر روتين حياة

0

استيقظت ” متعكر المزاج على نفس ما نمت عليه في الليلة الماضية، إنها من تلك الأيام التي يشعر فيها المرء بانقباض الروح من غير ما سبب واضح، حيث يغدو الإنسان فيها شديد الحساسية والتركيز على كل مالا يَسُر .. كملاحظة تلك البقعة مقشورة الدهان التي تتعلق بوقاحة في سقف الغرفة، كما كل اجزاء مدخل هذا المبنى البائس، أو عندما تكتشف أن الجيران في المبنى كلهم من الدراويش أصحاب الدخل المتدني والحياة المتدنية مما يقودك للاستنتاج الذكي بأنك شخصياً تنتمي إلى هذه الفئة .. كل هذه المناظر وغيرها.. وغيرها كثير من مظاهر البؤس.

لقداستيقظت صباحاً حتى اعلن إلى نفسي و اقول “الله يلعن هالعيشة” دونما سبب مباشر، و ناديت بصوت مرتفع يا مرة .. حضريلي فنجان قهوة..هرعت ام بدر إلى المطبخ لتستل “ركوة” القهوة وتملأها بالماء، شعرت بالفخر وهي تتأمل الركوة ذات الزخارف الذهبية التي تذكرها على نحو ما بصبحياتها الجميلة البائدة مع جارات العمر والرضا .. لم يكن الحصول عليها بالسهولة التي يستحوذ المرء فيها على “ركوات” القهوة عادة، لقد اضطرت هي وأبو بدر أن يعيشا ردحاً من الزمن تحت رحمة الظروف المتعثرة التي تصدر أصواتاً معوية قبل أن تصب القهوة في الفنجان ..

القهوة البنية “السايطة” التي لا تشبه أية قهوة قد عرفاها من قبل.. تنهدت “أم بدر” وهي تبعد تلك الرؤى وغرفت ملعقة من البن شهي الرائحة ذي الهال.ازدرد الحاج “أبو بدر” رشفة ساخنة حارقة وتمتم : اليوم سأمر على “أبي صبحي” .. لابد أن في رأسه مشروع ما .. أعرفه نسناس ودوماً ما يكون في رأسه مشروع ما ..هزت حميدة ام بدر رأسها موافقة، وهي تفكر بأن أمامها الآن ثلاث ساعات على الأقل من خلو البيت من “النق والسق”، يجب أن تستغلها جيداً بأن تخرج أعواد الحياكة فربما تنتهي اليوم من الكنزة الصوفية، ومن يدري؟ ربما تستطيع أن تفتح مشروع الكبة المؤجل عدة مرات هذا الشهر.وكما صار يعلم، انطلق الحاج ليقف في الموقف وينظر الى المارة، و الكل شارد الذهن يجري في حياة بائسة، مغمسة بالذل و اصحاب السطوة يتربصون بالجميع، يجمعون قوتهم و يقلبون جيوبهم، ينظر الى الجميع في الشارع، في الحي و نظرة ثاقبة الى المدينة.. مستحضرا ما كان يقول له ابنه بدر.. الى متى سنبقى تحت نعال من لا يرحم؟ و يتذكر ابا بدر انه كان دوما ينهره و يسكته خوفا عليه.

فمضى الرجل شريد الذهن حتى وصل بيت صديقه رن “أبو بدر” الجرس ويحمحم عندما يسمع صوت امرأة، فسألها “هل أبو صبحي في البيت، أنا أبو أبو بدر” .. ويجده في البيت دائماً .. يأخذ الرجلان الدرب المستقيم ثم ينعطفان عند الناصية ليدخلان الحديقة .. وهناك يقضيان دوماً ساعات متواصلة في الحديث عن ضيق الحال و ابتكار المشاريع للخروج من هذه الحالة، و لكن يبدو ان كل الطرق مغلقة فيقومان بشتم المتنفذين و سب الحياة  اللانهائية التعثر..

هب نسيم بارد يمر من خلال عروق الشجرة الوارقة فوق رأسيهما فتتساقط عدة أوراق تتراقص أمامهما في إعصار دائري لطيف قريب من الأرض حاملا معه إنذاراً مبكراً بقرب الخريف .. الأرض العشبية تمتد واسعة بغطاء ملون بديع من أزهار منوعة لا يعرفان أسماءها .. فجأة اقترب منهما شاب وبدأ بحديث سريع منفعل معهما .. نظر الرجلان إلى بعضهما بعيون زجاجية غير فاهمة وسارع “أبو بدر” بكلمات متعثرة وإشارات متداخلة بيديه حتى يفهم ماذا احل بهذا الشاب، تحول من الانفعال إلى البكاء الخائف و كانت تفوح منه رائحة البنزين واستمر بالكلام وهو ينظر في كل الاتجاهات .. ارتبك الرجلان وصارا ينظران في محيط دائرة بحثاً عن أحد ما قد يحمل عنهما كتفاً بفهم ماذ يحدث!!!..  و بعد عدة دقائق مرهقة لاحت من بعيد دورية تركض ما لبثت أن هرعت مسرعة باتجاههما، فتمتم الرجلان ببضعة كلمات لا يفهمون ما يحدث، تعالت اصواتهم و هم يسحبون الشاب، مع نظرات متفحصة لهما .. و هكذا لم يفهم الرجلان ما الذي حدث! و من هو هذا الشاب و ماذا فعل؟ و لمذا تصرفت الشرطة معه بهذه الطريقة؟.. و لكن اظنه انه هو ذاك الشاب صاحب البسطة على الناصية، يقول ابو صبحي لصديقه ابو بدر، فقد سكب على نفسه البنزين ملوحا بحرق نفسه و كان يركض بحثا عن اعواد ثقاب عندما وصل الينا.

عاد و تنهد ابو بدر يتجرع الحزن على ما حل بالناس من ضيق الحال، و سطوة المتنفذين.

وقف الرجلان “أبو بدر و صديقه ابو صبحي” مترجلين عائدان، وشعور الثقل لا يبارح قلبهما، في الحقيقة فإن لقاءه مع صديقه لم يعدل مزاجه كما توقع بل زاد الأمر سوءاً .. ركب في التاكسي و قال له السائق جملة ما.. فهز “أبو بدر” رأسه بحركة آلية يفعلها دوماً إذا ما توجه أحدهم إليه بالكلام و الكل يشكي ضيق الحال ولم تكن في هذه النبرة إلا ان يتنهد الجميع و ينهون كلامهم بجملة “بعين الله” .. كما يفعل و يقول عادة ابو بدر. لم يكن متوجها إلى بيته مسرعا، و هو غارق في التفكير.. هاقد مرت كل محطات العمر الآن، لكن الشوارع ليست بهي الشوارع! حتى بدأت كفتا يداه بالتعرق وبات الآن متأكداً أن خطأ ما قد حدث، أعاد النظر إلى  الشارع فوجده مطابقاً للمكان المنشود.. مكان بيته مكان حارته اين عاش و ترعع ” ابو بدر” فقد كان شارد الذهن و في قلبه شعور الوحدة والضياع الذي لطالما شعر به من وهو طفل حتى اصبح كهل في الخامسة والسبعين من العمر، و الفرق هنا يقول  أنا الآن لا أستطيع أن أتكلم، لا أستطيع أن أبكي .. انا الأن في اراذل العمر مرغرةٌ عيونه بالدموع، فقد عاصرت عدة ازمنة منها النكبة، و النكسة، و حكم اليهود، ولكن اسوأ من هذه الحقبة لم ترى عيني ابدا.

انتهت “أم بدر” من البلوزة الصوفية ومن تقريص الكبة قبل أن تسمع صوت المفتاح في الباب .. لقد عاد زوجها لاهثاً مشتتاً بعد غياب النهار بكامله.. “هل عند أبو صبحي أي مشروع” ؟ قالتها الزوجة وهي تنتظر سماع الإجابة المعتادة بأن أبا صبحي ثرثار ليس عنده أية مشاريع .. لكن عينا زوجها تألقتا لثانية وهو يقول : عندي أنا مشروع ! مشروع استرداد لساني.. سوف نتعلم او نعلم اولادنا و احفادنا ان الظلام و الظلامية و الظلم لا و لن يدوم ابدا، و حتى نعود الى امجادنا يجب ان نفوق و يفوق الجميع كفى عبث في وطن ارهقته خيانة الجميع له. اقول ولا ابالي.. حياة أعيش فيها الموت او اموت فلا ابالي فذلك العمر من نُسُجَ الخيال.

 

 

Leave A Reply

Your email address will not be published.